بقلم الدكتورة تغريد حيدر | أخصائية نفسية ومدربة في مجال الإرشاد الأسري
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
فلسفة البكاء على الإمام الحسين (ع) هي نموذج لرؤية أكثر اتساعاً تشمل مفهوم “وعي البكاء” على أهل البيت(ع) جميعهم، فهذه الرؤية تنطلق من وعي المؤمن لمكانة الإمامة وكونها فكرة وجودية تمثّل امتداداً للنبوة التي تشكّل بدورها امتداداً للنهج الإلهي هلى الأرض. فنحن تمسكّنا بالحسين كي لا نفقد علياً، وتمسّكنا بعليٍّ كي لا نفقد محمد، وتمسكّنا بمحمد لأننا متشبّثون بدين الله.
يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم:” وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”. ولن ندخل في إطار شرح الفروق بين القلب والفؤاد واللّب لكن يكفي أن نشير إلى أنه تم الجمع بين القلب/الفؤاد من جهة وحاسّتي السمع والبصر من جهة أخرى عشرين مرة تقريباً للدلالة على على ارتباط هذا المصطلح (القلب) بمسألة الإدراك، وبالتالي هو المعوّل عليه في الصلاح والفساد.
كيف ذلك؟
يقول الله سبحانه وتعالى:” لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا”، وهنا إشارة إلى أن وظيفة القلب هي التفقّه أي أن القلب هو محل البصيرة، والبصيرة هي مكان تحكيم العقل أمام ما يُعرض عليه.
وفي آية أخرى: ” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ”، وهنا يبيّن الله سبحانه وتعالى أن القلب أداةً لتحصيل المعرفة، ووظيفتها التعقّل كما الأذن وظيفتها السمع والعين وظيفتها البصر. كما يشير الله سبحانه وتعالى إلى مسألة خطيرة وهي أن القلوب تعمى، وفي مورد آخر من القرآن الكريم:” وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا”.
فلننظر إلى هذا الربط العجيب بين العمى والضلالة، وكأنما الإنسان يكون أعمى على مستوى البصيرة عندما لا يعقد المحبة الخالصة لله في القلب وبالتالي يتشوّه وعيه، ذلك الوعي المرتبط بتكليفه في الحياة من خلال وعي المفاهيم التي حثّ عليها القرآن الكريم وجسّدها الرسول (ص) وأهل بيته(ع) في حياتهم.
ألم يُشر الرسول (ص) في حديث له إلى العينين في قلب الإنسان والتي يبصر بهما أمر الآخرة، وإذا أراد بعبدٍ خيراً فتح عينيه اللتين في قلبه؟ وقال الإمام علي(ع) في وصيته للحسن(ع):”أحي قلبك بالموعظة”، وقال الإمام الحسن(ع) :” التفكر حياة قلب البصير”. وهكذا استمرت الدعوة إلى يقظة القلب من خلال أقوال الأئمة(ع) ، ونحن نعلم أن أهل البيت(ع) هم القرآن الناطق ولذلك قال الرسول (ص): “إني تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي”، ألا نرى أنها إشارة إلى ضرورة وعي مفاهيم القرآن الكريم والتفكّر بما ورد فيه بالموازاة مع ضرورة وعي سيرة أهل البيت (ع) وتدبّر ما ورد فيها بهدف واحد: أن لا نقع في الضلالة أي ألا تعمى قلوبنا، وهذا معنى توافقي تام مع ما حثّ الله عليه من خلال الآيات السابقة.
يرتبط مفهوم البكاء بالقلب بحسب ما هو متعارف عليه بين الناس، والبكاء هو التعبير الظاهري للحالة التي تعتري قلب الإنسان، وأسبابه تترواح ما بين شدة الإيمان وشدة الحزن.
لقد بكى يعقوب على يوسف، وبكى الرسول على فقده لعمه حمزة ولزوجته خديجة، كما بكت الزهراء (ع) على والدها (ص)، والأئمة (ع) من بعد الحسين(ع) بكوا على ما حصل في واقعة الطف. إذن، البكاء مطلوب حتى أن الإمام علي (ع) قال :” ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب “، وبالتالي إن كان البكاء يساعد في التفريغ عن الحالة النفسية للفرد فلا بد أن يساهم أيضاً في التنمية الروحية، وغسل القلوب وتطهيرها، وترسيخ القيم التي ضحّى في سبيلها الأنبياء (ص) والأئمة (ع) ليتحوّل عندها إلى أداة إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
كيف يتحوّل البكاء إلى أداة إصلاحية تخدم أهداف ثورة الحسين(ع)؟
يشير الشهيد السيد محمد باقر الصدر في معرض حديث له عن أهمية وعي البكاء على الحسين (ع) أن البكاء وحده ليس ضمانا، والعاطفة وحدها ليست ضماناً لإثبات أن صاحب هذه العاطفة لا يقف موقفا يقتل فيه الإمام الحسين، أو يقتل فيه أهداف الحسين: فعمر بن سعد بكى وكذلك قتلة الإمام (ع) وأصحابه، ولكن أيشكّل ذلك دليلاً على ذرة إيمان لديهم وهم من جسّدوا قمة الطغيان؟
وفي ذات السياق، يشير الشهيد المطهّري في كتابه “الملحمة الحسينية” بما معناه إلى أن الحسين(ع) استشهد ثلاث مرات: مرة على يد اليزيديين في واقعة الطف، ومرة على يد أعدائه الذين شوّهوا سمعته وأساءوا لمقامه، أما الثالثة وهي الأخطر: عندما استشهدت أهدافه على يد من لم يفهم أبعاد قضيته وأظهره بصورة المنكسر يوم كربلاء وعمد إلى المغالاة عبر الإستناد إلى الاساطير والروايات القاصرة التي عتّمت على أهداف تلك الثورة. ولسنا بصدد مناقشة مظاهر الغلو بل نترك ذلك للمتخصصين في هذا المجال ونبارك لهم جهودهم في في معركة إعادة تأهيل الفكر الديني، لكننا نسلط الضوء على فكرة مفادها “أن الحسين(ع) لا يحتاج كل هذا التضخيم ليصبح عظيماً، فالحسين عظيم لأنه الحسين”.
إدراك هذه العظمة لا بد أن يًبنى على المعرفة أولاً ، بمعنى لا بد أن نعرف الحسين (ع) كما يجدر بنا حتى نبني معه تلك الرابطة التي تقودنا إلى البكاء.
نحن نبكي عندما نكون مرتبطين عاطفياُ بشخص ما أو بالقضية التي يمثّلها، وكلما عرفناه أكثر نبكي لفقده أكثر. إذن، مع تعمّق المعرفة به، لا نحتاج إلى محفّز خارجي للبكاء: إن وعي ما حدث معه يصبح بحد ذاته مفجعاً. ومن هنا نستخلص مفهوم أهمية ارتباط المعرفة بالسلوك، أي أن ينطلق سلوكنا الخارجي (البكاء) من المعرفة (لماذا أبكي؟).
فنحن جميعاً نحب أهل البيت(ع) لكننا لا نعرفهم كما يجب، والدليل على ذلك أننا لا نطبّق عملياً ما قدّموا حياتهم لأجله، بل أكثر من ذلك: أنا نبكي بحرقة على المعاصي التي تم ارتكابها في عاشوراء إلا أن ذلك لا يردعنا عن ارتكاب ذات المعاصي (الظلم، التعلّق بالدنيا، طلب رضا الحاكم..).
لقد ضحّى الحسين(ع) بحياته لأجل ان تُحفظ مبادىء الإسلام، فهل حفظناها فعلاً؟ ألا نعيش اليوم ظروفاً تحاكي ظروف عصر الحسين(ع)؟ هل سنستثمر هذه الظروف كي نحقق أهدافه المرتبطة بأهداف الإمام المنتظر(ع) أم أننا تلكّأنا تحت تبريرات مختلفة؟ لم يخرج الحسين (ع) فقط لطلب الإصلاح بل قٌتل في سبيل ذلك، فهل نحن ماضون في إصلاح ذواتنا وإصلاح المجتمع أم أننا لا نعي تكليفنا في هذا المجال؟ هل ندرك أن الجميل الذي ما رأت السيدة زينب(ع) غيره يرتبط بشكلٍ معيّن بتأثير هذه الواقعة المفجعة على الأجيال اللاحقة من خلال هدايتهم إلى أصل الإيمان: إبذل كل ما لديك في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن وصلت في تضحياتك إلى أن تبذل حياتك وهي أغلى ما تملك على ألا تضع يدك في يد ظالم!
نحن عندما نحيي أمر أهل البيت(ع) خلال شهر محرّم، نحيي روح العدالة والجهاد ضد الظلم على جميع المستويات، لكن إذا ما اختزلنا الحسين(ع) في واقعة الطف فلن نفهم من الثورة إلا حمل السلاح، وهو أمر مطلوب ضمن شروط معينة، ولكن كيف ينصر الناس الإمام(ع) في كل عصر وعلى جميع الجبهات بغض النظر عن جنسهم، ومجال عملهم..؟
ننصره من خلال وعينا لما ناضل لأجله، ونصرة الأهداف التي نصّ عليها القرآن الكريم وجسّدها الرسول(ص) وأهل بيته لأنهم امتداد للنهج الإلهي على الأرض “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا” إلى يوم ظهور الإمام المنتظَر الذي ينتظر منا نهضة مباركة على مستوى القلب.
إنطلاقاً من ربط مفهوم ضرورة البكاء الهادف على الحسين (ع) بمسألة وعي الأهداف التي قامت على أساسها ثورته والتي توّجت بمعركة الطف، نجد أن لا بد من تفعيل كل وسائل إحياء أمر أهل البيت(ع) حتى يصير الإنسان ناطقاً بالإسلام أينما حل طبقاً لمؤهلاته وامكانياته.
وفي سياق ذلك، إذا استطعنا أن نربط بين الوعي والبكاء، نستطيع أن نفهم لمَ قضى الإمام علي(ع) خمساً وعشرين سنة دون أن يحارب عسكرياً من أجل استرداد حقه بالخلافة، وكيف تجسّدت شجاعة الإمام الحسن(ع) من خلال توقيعه الهدنة مع معاوية، ولماذا انتظر الحسين(ع) عشر سنوات قبل أن يقرر أن يخرج طلباً للإصلاح: هل ما كان مصلحاً قبل هذا التوقيت؟ إذن، لا بد أن ندرك أن واقعة الطف حلقة من سلسلة متصلة تمثّل نهجاً واحداً: الحق في مقابل الباطل، خطّان متوازيان لا يلتقيان.
عندها فقط سنبكي الحسين ومن سبقه ومن لحقه من أهل البيت(ع)، فعلى الرغم من أن لواقعة كربلاء أثراً حاد على المستوى العاطفي لما تمثّله من مواجهة وحشية أظهرت كمية غير طبيعية من النفوس الحاقدة، إلا إنها على المستوى الفكري تعطي دروساً في الثبات والإرادة واليقين تشبه تماماً ما دافع لأجله كل إمام من أهل بيت الرسول (ص).
نحن، إذا أبقينا على البكاء كتقليد غير مقترن بالوعي، كيف سنرتقي عن التعلّق بالدنيا؟ كيف سننبذ التعصّب؟ كيف سنحارب الظلم دون تردد؟ كيف سنحارب الجهل؟ كيف سنؤسس لجيل ذي عقيدة ثابتة لا تهتز أمام اغراءات العصر؟ كيف سنستقطب الآخرين إلى الإسلام ونساعد في تصويب الصورة الخاصة بهذا الدين العظيم؟ كيف سنؤدي تكليفنا أمام الله والمجتمع ونترك البصمة المطلوبة؟ كيف سنجاهد الجهاد الأكبر لنكون بحق من الممهدين لظهور الإمام المهدي (ع) ومن المساندين له في معركته التي تُعد الجولة الثانية في حرب الحسين ضد يزيد؟
إن الله سبحانه وتعالى يربّينا من خلال القرآن الكريم، ويهدينا إلى سبل تربية وتهذيب النفس من خلال التأكيد على أهمية العاطفة في حياة الإنسان عبر قيم أساسية مثل الرحمة والبر والإحسان، تلك القيم التي جسّدها عملياً الرسول (ص) وأهل بيته (ع) من خلال تعاملهم مع بعضهم ومع الآخرين. كيف ينتقل كل ذلك إلينا؟
إن إحياء مجالس العزاء يساهم في تعظيم شعائر الله وترسيخ الوعي المجتمعي، ولكن لا بد من الا تنتهي المآتم عند حد البكاء وإنما أن نخرج منها بعَبرةٍ ممزوجة بعِبرة، فيساهم بالتالي وعي المفاهيم في أن يرق القلب وتقوده إلى أن يعود إلى الفطرة وهي التشبث بالولاية عن اختيار مسبق وإرادة حرّة.
يقول الله تعالى: ” إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب”، هذه المجالس إذن من سبل إحياء الأمر لأنها تحيي القلوب وتجعلها منتبهة يقظة لا تنسى، فالبكاء المقرون بالوعي يغيّر حال الإنسان ويصلح قلبه ويعالج فكره فتنتهي المراسم ولا ينتهي الأثر، مثل ذلك كمثل الصلاة عندما يستمر تأثيرها على الإنسان ما بين الفرائض.
عندما نطبق الحديث القائل: ” فإنما البصير من سمع فتفكّر ونظر فأبصر وانتفع بالعبر”، عندها فقط نكون من الذين يطبقّون الشعار الذي نرفعه سنوياً: كل يوم عاشوراء. إن ضمانة استمرار قيم عاشوراء ما بين محرّم ومحرّم مرتبطة باستخدام البصيرة في القضايا المصيرية مما يساعد على مساعدة القلوب على الثبات.
اللهم نسألك الثبات والبصيرة، ونختم بدعاء أمير االقلوب علي (ع):
“اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ”
والحمد لله رب العالمين