الايقاع الصوتي

لقد اهتم العلماء قديما وحديثا بدراسة العلاقة بين الأصوات والمعاني التي تدل عليها الألفاظ، ومنهم سيبويه الذي مثل لتلك العلاقة بالألفاظ: اللهبان والصخدان، والوهجان، لأنه تحرك الحر وثؤوره، فإنما هو بمنزلة الغليان”[1]، وعلى هذا النهج، “يسير سيد قطب في تحليل النصوص القرآنية في كتبه، مستخدما مصطلح الجرس (وهو الصوت الشديد)، وهو يربط الإيقاع الموسيقي للألفاظ بالمعنى المراد، والحالة النفسية، والجوّ العام للسياق، وهذا منهج سليم، لأن الإيقاع الموسيقي في القرآن لم يقصد لذاته، لمجرد التنغيم. والإطراب بهذه النبرات الصوتية المنغّمة، بل هو وسيلة لتصوير المعاني الدينية”[2]. “ولقد تبين بعد دراسة القرآن أن له موسيقى خاصة، موسيقى الكلمات والجمل، وموسيقى ذاتية تنفعل لها النفوس فتهتز وتطرب”[3]. ولعلّ “فواصل القرآن تعتمد كثيرا على الحركات والمدود والصيغ دون تماثل الحروف وبذلك تخالف قوافي القصائد”[4]، وهذا ما يضيف إيقاعا جميلا تميّز به القرآن المجيد. “وبسبب الطبيعة الخاصة للنص القرآني فإنه تضاف وظيفة أخرى على قدر كبير من الأهمية وهي الوظيفة الإيقاعية”[5]، لقد تفرّد ابن جني فأفرد بابا أسماه (في إمساس الألفاظ أشباه المعاني) ويقول: “أمّا مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهج متلئبّ (أي: ثابت) عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبّر بها عنها، فيعدّلونها بها ويحتذونها عليها. وذلك أكثر ممّا نقدّره، وأضعاف ما نستشعره، ويأخذ مثالا: الوسيلة، والوصيلة، والصاد – كما ترى – أقوى صوتا من السين؛ لما فيها من الاستعلاء، والوصيلة أقوى معنى من الوسيلة[6]. “وأن الحركات والعلامات تجري مجرى الأصوات الموسيقية، وتستقرّ في مواضعها المقدورة، على حسب الحركة والسكون في مقاييس النغم والإيقاع”[7]. إن إطالة الأصوات وتقصيرها تضفي جمال لقوة المعنى وضعفه. وما للمدود والحركات من دور في المساهمة في فتح أفق الخيال لتحلّق في جو ما يرسمه ذلك اللفظ من تعبيرات، وصور ليصل بالقارئ الى استكمال الصورة المراد بيانها.

لا يتناول هذا البحث تحليل تركيب الكلمة أو الجملة، ولا النظر إلى صفة الحرف ومخرجه وحاله من حيث التفخيم والترقيق، والشدّة والرخاوة والجهر والهمس والإطباق والانفتاح والاستعلاء والاستطالة والتفشي وغير ذلك. والكلام هنا ليس حول موسيقى التركيب والتي هي ظاهرة أصيلة في اللغة العربية، كما في سائر اللغات، بل سيبحث كيف أن للمدود والحركات شأن في تصوير الحالة النفسية للقارئ في أجواء المواقف في المدود والغنّات والسّكنات والحركات، فالمواقف مختلفة، والتشكيل الصوتي تبعا لها مختلف، فإن الاهتمام بمقادير وأوزان الحركات والمدود تساهم بشكل كبير جدا في رسم الصورة الفنية والجمالية للفظ القرآني مما يشبع الصور القرآنية ألواناً فوق الصيغة البنائية، ويعتمد كل ذلك على مهارة القارئ. إن الاهتمام بالإيقاع الصوتي يدعو الى التأمّل كثيرا بالآيات. إن الفترات الزمنية للمدود والحركات والغنن عند الالتزام بها -بشكل دقيق- لها أبعاد شعورية وحسية لدى السامع لتلاوة آيات القرآن الكريم، ولها دور مباشر في رسم الصورة المتخيَّلة. إن الغور في دراسة الإيقاع الصوتي الناجم عن المدود والحركات ستوسع افق المفسّر في تقريب معنى الآية والله العالم قبل وبعد كل شيء.


[1] الكتاب، سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، دار الجيل، بيروت، ج 4، ص 14

[2] وظيفة الصورة الفنية في القرآن، عبد السلام أحمد الراغب، فصلت للدراسات والترجمة والنشر، حلب،2001، ص 393

[3] تفسير التّحرير والتّنوير، محمّد الطاهر ابن عاشور، مؤسسة التاريخ العربي، 1420ه، ج21، ص 112

[4] التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم، محمّد غازي عرابي، دار البشائر الإسلاميّة، 1426ه، ج2، ص 164

[5] التحليل البلاغي للظاهرة الصوتية في القرآن الكريم، لؤي علي خليل، ج 1، ص 7

[6] الخصائص، أبي الفتح عثمان بن جنّي، دار الكتب العلميّة، بيروت، ج1، 505

[7] اللغة الشاعرة، عباس محمد العقاد، دار القلم، لبنان، ص 15