إحياء أمر أهل البيت (ع): مقاربة دينية تربوية

بقلم الدكتورة تغريد حيدر | أخصائية نفسية ومدربة في مجال الإرشاد الأسري

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

يقول الإمام الصادق (ع): ” أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا”.
هل هي دعوة لإحياء ذكرى الميلاد والشهادة؟ أم دعوة لإحياء الإسلام؟
يجيبنا الإمام علي الرضا (ع) عن كيفية إحياء الإنسان لأمر اهل البيت (ع) بقوله : ” أن يتعلّم علومنا ويعلّمها للناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا”.
إذن، ينقسم كلام الإمام (ع) إلى ثلاثة أقسام:

  • أن يتعلّم الإنسان علوم أهل البيت (ع)
  • أن ينقلها للآخرين
  • أن يكون من الدّعاة إلى اتّباع نهج أهل البيت (ع)

كيف يتعلّم الإنسان هذه العلوم؟
أن يتعرّف أولا” إلى المفاهيم التي وردت في القرآن الكريم من خلال التفكّر والتدبّر لأنها تمثّل المفاهيم التي ناضل لأجلها الرسول (ص) وأهل بيته(ع). وليتمكّن الإنسان من ذلك، لا بد أن يعرف أهل البيت(ع) حق معرفتهم، وبالشكل الذي يليق بمكانتهم.

اليوم إذا ما طرحنا مجموعة من الأسئلة على مجتمعنا الإسلامي ولا سيما الشباب المسلم تحديدا” لأنهم بناة المستقبل والمُلمّون بكل التفاصيل المتعلّقة بالتطوّر العلمي، ماذا يعرفون عن الإمام علي (ع)؟ قد يعرفون أنه شجاع، مقدام، سند للرسول (ص) في الحروب لكن ماذا يعرفون عن أخلاقه بالتعامل مع المختلف؟ ماذا يعرفون عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في عهده؟ ماذا يعرفون عن عدالته -وقد قيل أنّ ما قتل الإمام (ع) هو عدم قدرة الناس على تحمّل عدله!
لو سألنا المجتمع الإسلامي – وسألنا أنفسنا- ماذا نعرف عن الإمام الحسن (ع)؟ كلنا يذكر الهدنة مع معاوية، ولكن من منّا اطّلع على بنود هذه الهدنة وتفكّر فيها ليعرف كيف خدمتْ الإسلام؟
لو تساءلنا عن الإمام الحسين(ع)، اما اختزلنا سيرة حياته في العشر الأولى من شهر محرّم؟ ماذا نعرف عن ثورته الإصلاحية التي شملت مختلف جوانب الحياة؟ ولماذا انتظر عشر سنوات قبل أن يخرج في طلب الإصلاح؟
ماذا نعرف عن الإمام زين العابدين (ع) غير أنه عليل كربلاء؟ من منّا يعلم كيف أسّس الإمام السجّاد (ع) لثورة فكرية من خلال الدعاء؟
وتصبح الصورة أكثر ضبابية وصولا” إلى الإمام الحسن العسكري (ع) والذي نعرفه كونه والد الإمام المهدي (ع) ولكن من منّا اطّلع على ظروف عصره وكيف مهّد بنفسه لغيبة الإمام الحجة؟

كم نحتاج اليوم أن نتفكّر من جديد في حياة أهل البيت (ع) وأحاديثهم ومواقفهم حتى نكون إلى صف الإمام الحسين (ع) كما ينبغي أن نكون، ومن الممهّدين لظهور صاحب العصر والزمان.
جميعنا نقول اليوم “اللهم عجّل لوليك الفرج”، ولكن هل نحن اليوم من الممهدين لظهور الإمام؟ هل نعرف الفرق مثلا” بين محاربة الظلم ونشر العدل؟ لعلّنا إذا تفكّرنا قليلا” في حال مجتمعاتنا الإسلامية اليوم لوجدنا أننا نحارب لتغيير الظالم لكننا لا نغيّر الظلم، وبالتالي فإن قصورنا وتقصيرنا يساهمان في السبات الذي نغرق فيه بعد أن صار معظمنا يخشى المجتمع وأعرافه أكثر من خشيته لله وما أنزل علينا!

هل ندرك أننا نحتاج إلى إعادة التأهيل الفكري بما يتضمّنه من تهذيب للنفس بهدف التعرّف من جديد إلى القيم التي ناضل من أجلها أئمتنا عليهم السلام ونستدخلها كنهجٍ تربوي في حياتنا؟ تلك القيم المتمثّلة بالحق والتقوى وصلابة الإرادة وثبات الموقف والغضب لله دون الغضب للذات.. تلك القيم التي جاهد واستشهد في سبيلها أهل البيت (ع) بعد أن جعلوا القرآن الدستور الذي يحكم حياتهم.

بالعودة إلى حديث الإمام الرضا (ع) حول كيفية إحياء الإنسان لأمر أهل البيت (ع) ، نجد أن كل ما سبق عرضه لا يتعدّى القسم الأول من القول: التعرّف إلى علوم أهل البيت (ع). فنحن بعد أن ندرك ذلك، ننتقل إلى المرحلة الثانية وهي تعليم الناس علومهم من خلال التوثيق الصحيح كوسيلة أولى، ومن خلال وعينا لتكليفنا ومسؤوليتنا باستدخال هذه القيم والمفاهيم بشكل إجرائي مما يجعلنا دعاةً صامتين ومبلّغين دون كلام.

إنّ إحياء أمر أهل البيت (ع) يرتبط إذن بالاقتداء الفعلي بنهجهم، وما يتعلّق به من ثبات على العقيدة، ودعوة إلى الحق في سبيل الإصلاح.

لقد خرج الإمام الحسين (ع) طلبا” للإصلاح أي للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في زمنٍ بات الطاغية بحد ذاته هو المنكر. ومن هنا، إن صرخة” ألا من ناصرٍ ينصرنا” خالدة على مدى العصور لأنها تشكّل الدعوة للدفاع عن الدين وليس عن الشخص فقط. فثورة الإمام الحسين (ع) الإصلاحية تشمل كل جوانب الحياة من دينية واجتماعية وسياسية وفكرية. ونحن ، إذا ما تفكّرنا بمعاني هذه الثورة وكيف كانت ركيزتها الأساسية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهمنا معنى انتصار الدم على السيف على الرغم من استشهاد الحسين (ع) وأصحابه في واقعة كربلاء.

يقول الإمام علي (ع) :” الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الشريعة” أي أنه أصل الإيمان، ونحن نعلم أن الصلاة عمود الدين حيث قال الله تعالى في كتابه العزيز: “إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ” (سورة العنكبوت الآية ٤٥)، وكأنما لا قيمة للصلاة إذا لم تقترن بهذه الدعوة. بل أن أهل البيت (ع) شدّدوا على أن كل أعمال الإنسان من جهادٍ وبرٍّ لا قيمة لها إذا لم تقترن بهذه الدعوة!

ولا بد في هذا السياق ان نذكر حديثين للرسول (ص) لمقاربتهما مع ما يحدث في عصرنا الحالي:
في جزء من حديث الرسول (ص) لأصحابه يقول: “كيف بكم أذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟”
يستغرب أصحاب الرسول(ص) سؤاله إلا أنه يكمل قائلا”:” فكيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا” والمنكر معروفا”؟
أي أن الرسول (ص) يشير إلى مخالفة صريحة للأمر الإلهي من قبل الناس، يتبعه ما هو أخطر: إنقلاب المفاهيم.

في عصرنا الحالي اختلفت المعايير، فما عاد معيار الحق ومعيار الباطل هما الأساس بعد أن وقع الناس في ورطة “تبرير الذات”. أي أن البعض صار يبرّر لنفسه نشر الفساد بشكل محدود إذا ما كان المدير المسؤول في المؤسسة التي يعمل فيها فاسدا” بشكل كبير! بل اننا جميعنا رأينا تعاطف بعض الناس مع ظاهرة الإنتحار هربا” من سوء الأوضاع الاقتصادية، وظاهرة السرقة لسد احتياجات الأسرة في ظل العجز المادي بسبب وباء كورونا.. وغيرها من الظواهر المبنية للأسف على مبدأ إنقلاب المفاهيم. ولسنا هنا في صدد الحكم على أحد، لكننا نشير إلى خطورة الأمور التي حذّر منها رسولنا الأكرم قبل ١٤٠٠ سنة، والتي قادت البعض إلى العودة نحو عبادة الأوثان “العصرية” .

صحيح أن الإسلام حارب عبادة الأصنام، لكن ألا نرى حولنا اليوم من يعبدون المال؟ ويعبدون السلطة والنفوذ الدنيوي؟ يعبدون الدنيا بكل إغراءاتها؟

أما حديث الرسول(ص) الثاني فقد حثّ من خلاله الناس على تغيير المنكر وإن بالقلب، فهل هذه الدعوة للسكوت عن الحق؟ إطلاقا”! إنها دعوة الإنسان لأن يذكّر نفسه دائما” بأن ما يراه أمام عينيه منكرا” كي لا ينقاد خلفه بل يؤسس الأرضية لتغييره عند أقرب فرصة، ويحمي نفسه بالتالي من اختلاط المفاهيم لديه.

لقد أراد لنا الله من خلال التفكّر في إحياء أمر أهل البيت (ع) ألّا ننحرف عن توجيهات القرآن الكريم، ولا عن مبدأ الحق لأنه – وكما قال أمير المؤمنين (ع) : “الحقّ أحقّ أن يُتَّبع” بغض النظر عن ظروف العصر.
تُعدُّ مجالس العزاء إحدى الوسائل الأساسية لإحياء أمر أهل البيت (ع) لأنها تمثّل إحياءً علنياً للشعائر من خلال التذكير بمآثر أهل البيت (ع) ومناقبهم، وبالظلم الذي وقع عليهم في دعوتهم للحق كما أنها تزلزل عروش الطغاة في كل زمان ومكان، وذلك بإطارٍ يدمى له القلب لأن البكاء حاجة ضرورية كي لا تقسى القلوب، ولكن الأجدر هو البكاء بوعي وإحياء أمر أهل البيت (ع) بوعي.
نحن في زيارتنا للإمام (ع) نقرأ: أشهد أنك أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر.
وهل يحتاج الإمام مني شهادة أم هي شهادة الإنسان على نفسه ليعود إلى أصل الدين؟

إذا أردنا أن نجدّد العهد مع أهل البيت (ع) فلا بد أن ننطلق من التفكّر في معنى إحياء أمرهم، لا بد أن نفهم ثورة الحسين (ع) الإصلاحية وما استشهد من أجله، وأن ندرك المعاني العظيمة التي تضمّنتها خطبة السيدة زينب (ع). لا بد أن نبدأ بالإصلاح الشخصي من خلال محاربة ذاتنا المتكبّرة وتعلّقها بالدنيا قبل انتقاد ومحاربة الآخر.

لا بد أن نؤسس للتكافل الاجتماعي الحقيقي الذي يشمل التعاطف مع الآخر والإنفاق على حب الحسين (ع)، فنحن لا نريد تطويرا” في المجتمع بقدر ما نريد العودة إلى الإسلام الأصيل لأن ذلك بحد ذاته قمة التحضّر والرّقي.

والحمد لله رب العالمين